فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا} أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لى من جهتها، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربى، فإن شاء أن يسقط علىّ صنم يشجّنى، أو كسف من شهب الكواكب يقتلنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بمشيئة الصنم أو الكواكب ولا بقدرته ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة اللّه الجارية إلا بما يثبت في علمه الأزلى.
ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله فقال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي أحاط بكل شيء علما، فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب.
{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضرّى ولا على إيصال النفع إليكم، فالسلطة العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئا من النفع أو الضر فلا يكون ذلك داعيا لرفعها عن رتبة المخلوقات، وجعلها أربابا ومعبودات.
وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، ويهدى إليه الوجدان.
ومما يجب أن يتنبه له كثير من الذين ينتمون إلى ملة التوحيد أن هذا الضرب من الشرك الذي نعاه إبراهيم على قومه- لا يزال فاشيا بينهم فهم يعتقدون في بعض المخلوقات من أحياء وأموات أن لهم تصرفا غيبيا، فما يقع عقب زيارتهم لهم من زوال مكروه أو نفع يصل إلى محبوب إنما كان بدعائهم، والواقع أن ذلك بتقدير السميع العليم، وليس لغيره في ذلك تأثير لا جلىّ ولا خفىّ.
وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف اللّه وحده، تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخيف، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه قال: {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا} أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندّا له ينفع ويضر- ولا تخافون إشراككم باللّه خالقكم ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى.
والخلاصة- إن ما يدّعى لصحة هذا الخوف باطل، وأنه عليه السلام لم يجد هذا الخوف وجها، فلا يخاف الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند اللّه وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدّعى لهم.
وقوله ما لم ينزل به عليكم سلطانا- مذكور على طريق التهكم، مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان، والتقليد ليس بعذر ولاسيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة واللّه لم ينزل بما ادعيتموه سلطانا لأنه باطل فلا سلطان عليه ولا دليل.
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} الفريقان: فريق الموحدين الذين يعبدون اللّه وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر كالشمس والقمر والملائكة- أي فأى هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته.
ونكتة التعبير {بأى الفريقين} دون أن يقول فأينا أحق بالأمن- الإشارة إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك لا خاصة به وبهم، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد، والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر فأخبرونى بذاك وبينوه بالأدلة- وفى هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحمق والجهل.
ثم بين سبحانه الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} المراد بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه باللّه ويخلطه به فينقص منه أو ينقصه هو الشرك في العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون اللّه يدعى معه أو من دونه، فيعظّم كتعظيمه ويحبّ كحبه، للاعتقاد أن له نفعا أو ضرا بذاته أو بتأثيره في مشيئة اللّه وقدرته، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضارّ أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام، يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول اللّه وأيّنا لا يظلم نفسه؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
إنما هو الشرك. والمراد بالأمن الأمن من عذاب اللّه الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته.
أي إن الذين آمنوا باللّه تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه وتعالى، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من الخلود في دار العذاب، وهم فيما وراء ذلك بين الخوف والرجاء.
وهذا جواب من اللّه به فصل القضاء بين إبراهيم ومن حاجّه من قومه كما اختاره بن جرير ونقله عن ابن إسحاق وابن زيد من المفسرين.
{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ} أي وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف، المثبتة للحق، المزيّفة للباطل، هي الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناها إياه ليلزم قومه ويقنعهم بها.
{نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} أي إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها، فالعلم درجة كمال، والحكمة درجة كمال، وقوة العارضة في الحجاج درجة كمال، والسيادة والحكم بالحق كذلك، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات، لأنها تشتمل عليها وتزيد.
واللّه يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقى درجته، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه، ويؤتى ذا الدرجة الوهبية (النبوة) ما لم يؤت غيره من أهل المناقب والآيات {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ}.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي إن ربك الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه، حكيم في قوله، عليم بشئونهم، وسيريك ذلك عيانا في سيرتك مع قومك كما أراكه بيانا فيما حدّث عن إبراهيم مع قومه وتأسّ في نفسك وقومك المكذبين بأبيك واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر.
واعلم أن معرفة اللّه تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعميم الوحى، وعلم الأنبياء به ضرورى لا نظرى فقد علّمهم به ما لم يكونوا يعلمون من الحجج العقلية والدلائل النقلية إلى نحو ذلك مما هداهم إليه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
يجوز في {حُجَّتنا} وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ، وفي {آتيْنَاهَا} حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والعامِلُ فيها معنى الإشارة، ويَدُلُّ على ذلك التَّصْرِيحُ بوقوع الحال في نظيرتها.
كقوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52].
والثاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَبَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة.
والثَّاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَيَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة.
والثَّاني من الوَجْهِيْنِ الأوَّلين: أن تكون {حُجَّتُنَا} بدلًا أو بَيَانًا لـ {تلك}، والخبر الجملة الفعلية.
وقال الحوفي: إن الجملة مِنْ {آتَيْنَاها} في مَوْضِع النعت لـ {حُجَّتُنَا} على نِيَّةِ الانْقِصَالِ؛ إذ التقدير: حُجّة لنا يعني الانفصال من الإضافة لِيَحْصُلَ التنكيرُ المُسَوِّغُ لوقوع الجُمْلَةِ صِفَةً لـ {حُجتنا} وهذا لا ينبغي أن يقال.
وقال أيضًا: إنَّ {إبراهيم} مفعول ثانٍ لـ {آتَيْنَاهَا}، والمفعول الأول هو هاء، وقد تقدَّم في أوَّلِ البقرةِ، فإنَّ هذا مَذْهب السُّهَيْلِيْ عند قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} [البقرة: 53].
وأنَّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عَاقِلًا، والثاني غيره، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير.
قوله: {عَلَى قَوْمِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلَّقٌ بـ {آياتنا} قاله ابن عطيَّة والحوفي، أي: أظهرناها لإراهيم على قَوْمِهِ.
والثاني: أنها مُتعلِّقَةٌ بمحذوف؛ على أنها حالٌ، أي: آتيناها إبراهيم حُجَّةً على قومه، أو دَلِيلًا على قومه، كذا قدَّرَهُ أبو البقاء، وييلزم من هذا التَّقديرِ أن تكون حالًا مُؤكّدة؛ إذ التَّقديرُ: وتلك حُجَّتنَا آتَيْنَاهَا له حُجَّةً.
وقدَّره أبو حيَّان على حَذْفِ مُضَافِ، فقال: أي: آتيناها إبراهيم مُسْتَعْلِيَةً على حُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرةً لها وهذا أحسن.
ومنع أبو البقاء أن تكون مُتعلِّقَةً بـ {حجتنا} قال: لأنها مَصْدَرٌ و{آتَيْنَاهَا} خَبَرٌ أو حالٌ، وكلاهما لا يفصل به بين المَوْصُولِ وصِلَتِهِ.
ومنع أبُو حيَّان ذلك أيْضًا، ولكن لكون الحُجَّةِ لَيْسَتْ مَصْدَرًا.
قال: إنما هو الكلامُ المُؤلَّفُ للاستلال على الشيء، ثم قال: ولو جعلناها مَصْدَرًا لم يَجُزْ ذلك أيضًا؛ لأنه لا يُفْصَلُ بالخبرِ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدرِ ومطلوبه.
وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء نظرٌ؛ لأنَّ الحالَ وإن كانت جُمْلَةً لَيْسَتْ أجْنَبِيَّةً حتَّى يُمْنَعُ الفَصْلُ بها؛ لأنها من جملة مَطْلُوباتِ المصدر، وقد تقدَّم نَظِيرُ ذلك بأشبع من هذا.
قوله: {نرفع} فيه وجهان:
الظاهر منهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب.
الثاني: جوَّزَهُ أبو البقاءِ، وبدأ به- أنها في مَوْضَعِ الحالِ من {آتيناها} يعني من فاعل {آتْيْنَاهَا}، أي: في حال كوننا رَافِعِينَ، ولا تكون حالًا من المفعولِ؛ إذ لا ضمير فيها يَعُودُ إليه.
ويُقْرأ {نَرْفَعُ} بنون العَظَمَةِ، وبياء الغَيْبَةِ، وكذلك {نَشَاء} وقرأ أهل الكُوفة: {دَرَجَاتٍ} بالتَّنْوين، وكذلك التي في يوسف [آية 76] والباقون بالإضافة فيهما، فقرءاة الكوفيين يُحْتَمَلُ نَصْبُ {درجات} فيها من خمسة أوجه:
أحدها: أنها مَنْصُوبَةٌ على الظَّرْفِ، و{مَنْ} مفعول {نرفع}؛ أي: نرفع من نَشَاءُ مراتب ومنازل.
والثاني: أن يَنْتَصِبَ على انه مفعولٌ ثانِ قُدِّم على الأوَّلِ، وذلك يحتاج إلى تَضْمين {نرفع} معنى فعل يتعدَّى لاثنين، وهو نُعطي مثلًا، أي: نعطي بالرفع من نشاءُ درجاتٍ، أي: رُتَبًا، فالدَّرجاتُ هي المرفوعة لقوله: {رَفِيعُ الدرجات} [غافر: 15].
وفي الحديث: «اللَّهُمَّ ارفَعْ درَجَتَهُ في عِلِّيِّينَ» وإذا رُفَعت الدرجة فقد رُفِعَ صَاحِبُهَا.
والثالث: يَنْتَصِبُ على حَذْفِ حرف الجرِّ؛ أي: إلى منازل، أو إلى درجات.
الرابع: أن يَنْتَصِبَ على التَّمييزِ، ويكن مُحَوَّلًا مِنَ المَفْعُولِيَّةِ، فتؤول إلى قراءة الجماعة؛ إذ الأصل: {نرفع درجاتِ من نشاءُ} بالإضافة، ثُمَّ حُوِّلَ كقوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} [القمر: 12]، أي: عيون الأرض.
الخامس: أنها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجات، ويشهد لهذه القِراءةِ قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ} [الزخرف: 32] {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى} [البقرة: 253].
وأما قراءة الجماعة: ف {درجات} مفعول {نرفع}. اهـ. باختصار.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنًا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه {فلما جن عليه} ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعًا من أفق سماء روحانيته فقال: {هذا ربي} أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل:
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ** فالجسم في غربة والروح في وطن

فإن كذبت النفس فيما قالت للكواكب هذا ربي ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب. فقال: {هذا ربي} فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره {لا أحب الآفلين} فلما تسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر {قال هذا ربي فلما أفل} عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن {لم يهدني ربي} برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة {لأكونن من القوم الضالين} عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها {قال هذا ربي فلما أفلت} شمس الهداية تعززًا وتعظمًا ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية.
إن شمس النهار تغرب بالليل ** وشمس القلوب ليست تغيب

تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال. فقال: {يا قوم إني بريء مما تشركون} وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشهبة فنظر أولًا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبقَ إلا الواجب الحق.
ومن الناس من حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال، والشمس على الوهم والعقل، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم قاهر لها مستولٍ عليها {وحاجة قومه} ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان {إلا أن يشاء ربي شيئًا} من الخذلان وهذا محال لأنه {وسع ربي كل شيء علمًا} فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل: أما إليك فلا {وتلك} يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات {آتيناها إبراهيم} بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه {نرفع درجات من نشاء} بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي. اهـ.